الصدقة /الكاتبة الشاعرة أ:مليكة السبيعي


 *الصدقة*

كان قلبه المريض يدق بآخر ما تبقى فيه من نبض بدا خافتا واهنا ضعيفا، وهو يراقب بخوف نتيجة الفحص، وعيناه شاخصتان مركزتان على ملامح الطبيب، الذي راح يتصفح ما بين يديه من أوراق طبية، بدت له كمصير حاسم لحياته، فأي حركة كافية لأن تصيبه بجلطة مميتة تترك وراءها أرملة مصدومة، وتيتم أطفالا صغارا لم يشب عودهم في حياة قهرت أعتى الناس وأشدهم بأسا، أو أن تبعث فيه جذوة أمل ترمم شظايا قلبه المتصدع، وتبعث فيه الحياة من جديد، وتمد في عمره إلى ماشاء الله له، وترسم الطمأنينة والسكينة على وجوه أهل بيته الذين عانوا معه طويلا، ودفعوه بإلحاح لعلاج نفسه، قبل أن يستفحل الداء، ويفوت الأوان ..

وطال تخوفه أكثر، إذ بدت له الثواني ساعات طوال مرت شديدة قاسية، حتى أنه تمنى فقط لو يتكلم الطبيب بأي نتيجة كانت ليرتاح من هواجسه المتلاحقة. كانت عينا الطبيب مركزة على مابين يديه بإمعان، وأخيرا نظر إلى مريضه، دون أن يبدو على ملامحه أي أثر لما يرفع من معنوياته أو يحبطها:

 - أستاذ يحيى، ستجري عملية على القلب هذه الأيام القادمة، سنحدد لك تاريخا، هناك مشكلة أظهرها الفحص، وتتعلق بانسداد في شرايين القلب ..

 ارتعاشة يده، وتلعثمه، وثقل لسانه وهو يردد وراء الطبيب مستفسرا :

-عملية للقلب؟ انسداد شرايين؟!

و تساؤله الوجل، كل هذا جعل الطبيب يتدارك الأمر، ويحاول طمأنته بأنها عملية لا تستدعي أي تخوف، لكن كان صارما وهو يؤكد له أن الأمر في غاية الأهمية، وأن التهاون فيه قد يشكل خطورة على صحته، واحتمال إصابته بجلطة لا علم بنتيجتها .. 

جمع الطبيب الأوراق، وأعادها إليه مستعجلا لدخول مريض ثان، وكأنه يحثه على الانصراف، فيما هو خرج غير مستوعب لشيء، حين استوقفته سيدة في الطريق، وهي تمد يدها إليه في استعطاف والحزن باد على محياها الذي محت السنون معالمه، بدا له كأنه مودع الدنيا، وكأن هذه السيدة المسكينة آخر وجه سيراه، قبل أن يغادر إلى دار البقاء، فأخرج كل ما في محفظة نقوده، ومده لها، وهي لا تصدق نفسها من هذا الكرم الكبير، الذي سيعفيها من الطواف المنهك لقواها المتعبة، وتذكرت زوجها الذي أقعده المرض لسنوات، والفرحة الكبيرة التي ستغمره حين تضع بين يديه ما حظيت به من مال كبير لم تكن تحلم به، قطعت حبل أفكارها سريعا، وراحت تدعو للرجل بصوت عال دون توقف وهي تقاوم دمعها من شدة الفرحة، شعر بدعائها كالبلسم يسري في قلبه المنهك، أحس بارتياح لوقع كلماتها وهي تدعو له دون توقف، ثم تابع سيره، و ركب سيارته ثم انطلق، ظل دعاء المرأة يتردد بقوته على مسمعه طوال الطريق.

حين وصل البيت، التف حوله أطفاله، وصوبت زوجته نظرها إليه مستفسرة بيدها عن النتيجة، وقد اصفر وجهها، وبدا شاحبا متعبا، كأنها لم تنم من أيام، كانوا ينتظرون على أحر من الجمر أن يخبرهم بنتيجة الفحص، و تذكر اللحظات الحرجة التي مر منها وهو ينتظر رد الطبيب، بذل جهده ليرسم على شفتيه إبتسامة فرحة، حاول جاهدا أن ينجح في التعبير عنها دون أن تخونه نفسه ويستسلم أمامهم، وأخيرا طمأنهم أنه بخير، وأن نتائج الفحص تبشر بما دعوا له به، وأن الله استجاب دعاءهم، ولا شيء يستدعي القلق أو الخوف، فرحوا و احتضنوه من شدة فرحتهم لسلامته مما كانوا يخشونه، طلب أن ينفرد لينجز بعض الأعمال بمكتبه، أغلق الباب، واستلقى على الأريكة باكيا، وحدها دعوات المرأة ظل صدى صوتها يرتفع ويتردد في أذنه قويا، يخترق قلبه الواهن المتعب، فيشعره براحة واطمئنان لم يشعر به طوال فترة مرضه، بل طوال حياته، حتى وهو في عز الخوف و اليأس أحس بشيء ما يعيد إليه بعض الارتياح، لكن ما زاد خوفه، هو ثروته الكبيرة، وأطفاله صغار، و هناك الكثير من المشاريع في الطريق، لم يبق إلا إعطاء الضوء الأخضر لانطلاقتها، وندم لأنه منع زوجته أن تكمل دراستها في تخصص لو تحقق لكانت ستدير مشاريعه بنجاح كبير. بدت له الحياة مجرد لحظة خاطفة، كأنه لم يعش هذه الثلاثون عاما بكل أيامها و شهورها وأعوامها، بكل تعبها و جدها وسهرها، بكل إخفاقاتها ونجاحاتها، وأخيرا قرر أن يستسلم للقدر، فهو يؤمن بالقدر دائما، وبأن الله لا يريد به إلا خيرا، هو لا يخاف الموت، فالطب تقدم كثيرا، وهناك من يعيش بقلب صناعي، وكثيرون أجروا عمليات أخطر من عمليته، ولكن كل خوفه هو مآل أسرته وأطفاله الذين لا زالوا صغارا، ثم بدأ يسأل مستجديا الله أن يرأف به، رحمة بأسرته الصغيرة، وأن يمهله القدر ولو عاما واحدا، ولو بعض الشهور، ، وراح يردد مستجديا ربه، أليس ياربي كنت بارا بوالدي حتى آخر رمق وقد ماتا في حضني؟ أليس أسديت خيرا لكثير من عبادك ؟ فككت ديون بعضهم، وأرسلت بعضهم على حسابي الخاص لحج بيتك العتيق قبل أن يخون العمر صحتهم ويعجزهم عن الحركة، فيشق عليهم السفر، أليس ساعدت فلانا وفلانة... وبدأ يستحضر الأسامي بلا عد ولا حصر، ونفسه تطمئن مع هذه اللائحة الطويلة من الناس الذين أسدى لهم خيرا طوال مسيرة حياته. أحس ببعض الطمأنينة كلما تذكر أعمال الخير التي قام بها، وكان قد نسيها، ونسي كل أعمال البر التي كان حريصا عليها، وتذكر دعاء المرأة الذي تغلغل قويا في داخله، حتى أن دعاءها لا زال يتردد قويا كل حين، فيشعره بمزيد من الارتياح ..

مضت الأيام المتفق عليها سريعا، وقد أعد لكل شيء حسابه، ولم ينس أن ينفذ طلب الطبيب، بأن يأتي معه بفحص ثان قبل إجراء العملية، وجاءت اللحظة الحاسمة، وضع الأوراق بين يدي الطبيب، الذي ظهر الاستغراب والذهول على وجهه فجأة وهو يتأمل النتيجة الأخيرة للفحص، حتى أنه طلب تصفح ملفه القديم، تأمله بدقة وهو يقارنه بما بين يديه وعلامات التعجب بادية عليه، ثم صاح به : يحيى الفحص الأخير سليم تماما، لم تعد بحاجة للعملية.

✍🏻 مليكة عمر السبيعي

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

( طــائــرٌ بـ نـخـوة )/كـ: كريمة الرفاعي

تعرف... بقلم البرنسيسة : أميرة العسيف أم الأمر

أنين الصمت /للشاعر المتألق ماجد محمد علي