لحظات صافية /للروائية الشاعرة منى حسن
لحظات صافية
ما بين الحياة والمصير: هل نحن أحرار أم مسيّرون؟
منذ أن وقف الإنسان الأول أمام البحر متأملًا اتساعه اللامحدود، راودته ذات التساؤلات التي لا تزال تطارده حتى اليوم: هل نحن من يرسم خطواتنا، أم أن هناك يدًا خفية تحركنا دون أن نشعر؟ هل قراراتنا تعبر عن إرادتنا، أم أننا مجرد أدوات في مسرح القدر؟
عند هيراقليطس، الفيلسوف الذي رأى العالم في حالة تغير دائم، اعتقد أن الحياة تشبه النهر، لا يمكن للإنسان أن يخطو في مياهه مرتين. لكنه لم ينكر وجود نوع من النظام الخفي يحكم هذا التغير، قانون كوني يسير كل شيء. نحن نعتقد أننا نختار، لكننا في الحقيقة مجرد موجات صغيرة داخل تيار ضخم يتحرك وفق منطق لا ندركه بالكامل.
أما ابن رشد، فقد حاول التوفيق بين العقل والإيمان بفكرة القدر، ورأى أن الإنسان يملك قدرة على الاختيار ضمن إطار الضرورة. نعم، نحن مقيدون بشروط لا يد لنا فيها مثل مكان ولادتنا، طباعنا، وحتى الفرص التي تمنح لنا ، لكننا في الوقت ذاته لسنا عاجزين بالكامل. المعرفة، في رأيه، هي مفتاح الحرية، فكلما فهمنا قوانين الحياة، كلما زادت قدرتنا على التحكم بها.
حديثا يقدم سارتر منظورًا متطرفًا للحرية. بالنسبة له، الإنسان "محكوم بأن يكون حرًا"، أي أنه لا يستطيع التهرب من مسؤولية اختياراته. لا يوجد قدر خارج إرادتنا، بل نحن من نمنحه شكله عبر قراراتنا اليومية. لكنه في ذات الوقت يعترف بأن وجود الآخرين يشكل قيودًا، وأن المجتمع نفسه قد يكون سجناً. فهل حريتنا مطلقة، أم أنها مجرد وهم جميل نحتاجه لنواصل العيش؟
لكلكنني حين أنظر إلى حياتي...
أفكر أحيانًا، لو عاد بي الزمن، هل كنت سأختار طريقًا آخر؟ هل كنت سأقرر مصيري بشكل مختلف؟ أم أن كل الطرق، مهما بدت متفرعة، تقود في النهاية إلى ذات النقطة؟؟؟؟
الحقيقة أنني لا أؤمن بالحتمية المطلقة، لكنني أيضًا لا أثق في الحرية المطلقة. نحن نقرر، نعم، لكن قراراتنا ليست نقية، بل محملة بظلال من الماضي، محكومة بأثر خطوات لم نخترها بالكامل. نشبه لاعب شطرنج يدخل مباراة لم يبدأها، عليه أن يتعامل مع وضع الرقعة كما هو، لا كما يتمنى أن يكون ؛
الحرية، إذن، ليست في قدرتنا على اختيار أي طريق نريده، بل في كيفية المشي فوق الطريق الذي فُرض علينا. أن نحول القيود إلى فرص، أن نخلق لأنفسنا مخرجًا حتى لو ظننا أن كل الأبواب مغلقة.
نحن لسنا مسيّرين تمامًا، لكننا لسنا أحرارًا بالكامل. نحن ذلك الخط الفاصل بين الإرادة والقدر، بين الفوضى والنظام، بين الحلم والواقع. وربما، في تلك المساحة الرمادية، يكمن سر الإنسان.
.
الحياة ليست سؤالًا له إجابة واحدة، بل تجربة متجددة تُعاد صياغتها في كل يوم نعيشه.
منى حسن
تعليقات
إرسال تعليق